نعيش في أوقات قلق وغموض غير مسبوقة
عندما حاولتُ التفكير في زمن واجَهَت البشرية فيه حالة قلق وغموض مشابهة لما نختبره اليوم، عدتُ حوالي ألفي عام. بعد انتظار دام مئات القرون لمخلص سينقذهم، آمن البعض أن المخلص قد أتى. هؤلاء التلاميذ المخلصون تبعوه، فساروا معه وأكلوا معه ورأوه وهو يصنع معجزات من شفاء المرضى لإقامة موتى! لقد كان موضع رجائهم وكان بطلهم. بل كثيرون قد “تركوا كل شيء وتبعوه” – لوقا ٥: ١١
ولكن بعد ثلاث سنين من المجد، فجأة أخذت الأمور منعطفًا سيئًا. لقد “أسلَمَهُ رؤَساءُ الكهنةِ وحُكّامُنا لقَضاءِ الموتِ وصَلَبوهُ. ونَحنُ كُنّا نَرجو أنَّهُ هو المُزمِعُ أنْ يَفديَ إسرائيلَ. ولكن، مع هذا كُلِّهِ، اليومَ لهُ ثَلاثَةُ أيّامٍ منذُ حَدَثَ ذلكَ. بل بَعضُ النِّساءِ مِنّا حَيَّرنَنا إذ كُنَّ باكِرًا عِندَ القَبرِ، ولَمّا لم يَجِدنَ جَسَدَهُ أتَينَ قائلاتٍ: إنَّهُنَّ رأينَ مَنظَرَ مَلائكَةٍ قالوا إنَّهُ حَيٌّ. ومَضَى قَوْمٌ مِنَ الّذينَ معنا إلَى القَبرِ، فوَجَدوا هكذا كما قالَتْ أيضًا النِّساءُ، وأمّا هو فلم يَرَوْهُ” – لوقا ٥: ١١
بدت تلك الأيام الثلاثة وكأنها أطول من الثلاث سنين المجيدة. فشعرنا وكأن كل شيء قد انتهى، فكل ما وضعنا أملنا به لمدة ثلاثة أعوام قد تلاشى في ثوانٍ. وعشنا في غموض مُرعب. كانت قلوبنا تنفطر من الخوف فاختبأنا خلف أبواب مغلقة، خائفين من اليهود ومن الرومان، بل ومن كل شيء. لقد أتى مُخلصنا.. لكنه مات.. لم يعد ههنا
اجتمعنا خلف هذه الأبواب، مُستغرقين في التفكير عن الأيام المجيدة التي باتت خلفنا، محاولين فهم ما حدث منذ ثلاثة أيام، وليست لدينا أدنى فكرة عما تُخبئه الأيام القادمة لنا. فكان بطرس يعاني من شعور مرير بالذنب على إنكاره للسيد ثلاث مرات. ويوحنا لم يستطع أن يمحو مشهد الصليب المُروِّع من تخيله ولا مشهد الرب وهو يصيح “إلهي إلهي لماذا تركتني؟” هل تركه أباه الذي أحبه كل هذا الحب وتحدث عنه بكل هذه المحبة؟ هل كانت هذه نهاية مُعلمنا المُذهل؟ لقد انكسرت قلوبنا وانعدم كل رجاء، وكنا مُحملين بذنب أننا تخلينا عن الرب بسبب خوفنا
في وسط كل هذا الألم والارتباك، فجأة.. ظهر في وسطنا! نعم ظهر الرب بنفسه! وقال تلك الكلمات البديعة: “سلامٌ لكم!” لنقول الصدق، كنا مرتاعين! لكنه طمأننا كما يستطيع وحده أن يفعل وطلب أن يأكل معنا! يا له من استرجاع للأيام الجميلة! ولكن الأمور أخذت مجرى جديدًا آخر ولكنها لم تكن مليئة بالخوف هذه المرة
فكما وعد، في الأيام التي تلت ذلك، بدأ الروح القدس يذكّرنا بكل ما قاله لنا (يو ١٤: ٢٦). قال أنه سيُعطينا سلامه ليس كما يُعطي العالم (يو ١٤: ٢٧). وقال أنه في العالم سيكون لنا ضيق ولكنه كلمنا بهذه الأمور ليكون لنا سلام فيه ولكي نثق أنه قد غلب العالم – يو ١٦: ٣٣
بدأنا نتذكر أنه عندما وُلد، ظهر جمهور من الجند السماوي مسبحين الله وقائلين: “المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة” (لو ٢: ١٤). وتذكرنا أنه عندما كان يصنع المعجزات، كان يقول، “اذهب بسلام” – لوقا ٧: ٥٠، ٨: ٤٨
عندما كنا نتعلم الشريعة في صبانا، تعلمنا أن المسيا سيُدعى رئيس السلام؛ سلام ليس له نهاية (إش ٩: ٦- ٧). كما علمنا إشعياء النبي أن الله يحفظ من يتوكل عليه سالمًا- أي في سلام كامل (إش ٢٦: ٣). وترنمنا مع داود، “بسلامةٍ- أي في سلامٍ- أضطجع بل أيضًا أنام، لأنك أنت يا رب مُنفردًا في طمأنينة تُسكنني” – مز ٤: ٨
الآن يمكننا أن نذهب إلى العالم أجمع، ونواجه حُكام وصعاب ومشقات واضطهادات وسجون، بل والموت نفسه لنحمل إنجيل السلام، لأن رئيس السلام معنا بل ويحيا بداخلنا
يا أحبائي، هذا السلام “شالوم” في العبرية و”أيرايناي” في اليونانية يعني أكثر بكثير مما نفكر فيه عادة عندما نفكر في كلمة “سلام”. هذا السلام ليس مضادًا للحرب فحسب، ولا ينحصر في حالة مزاجية أو شعورية تتغير بتغيّر الظروف المحيطة بنا. هذا السلام الذي يمنحنا إياه الرب هو حقًا سلامه الذي “يفوق كل عقل” كما وصفه الرسول بولس – في ٤: ٧
هذا السلام يعني الوحدة بين أشياء متناثرة أو مُشوَّشة. أليس هذا ما نشعر به عندما نشعر بالقلق أو الخوف؟ ألا نشعر بالتشويش أو التيهان وفي حيرة لإيجاد الكلمات لكي نعبِّر عما بداخلنا؟ نشعر وكأنه يوجد نشاز بداخلنا. السلام هو حالة الانسجام أو الاتساق الداخلي والذي نتوق له في عالم مليء بالنشاز. لقد شوهت الخطية السيمفونية البديعة التي خلقها الله؛ فأصبحت هناك عداوة بين الإنسان والله، بين الإنسان وقريبه، بين الإنسان والخليقة، بل وبين الإنسان وذاته. كما يكتب الكاتب المسيحي تيموثي كيلر: الخطية تُفسد السلام
ولهذا أتى رئيس السلام، تاركًا لنا إنجيل السلام؛ الخبر السار أنه أصبح بإمكاننا أن نسترجع حالة الانسجام والاتساق لحياتنا من جديد من خلال اتحادنا برئيس السلام- بشخص المسيح! فإن رئيس السلام يجتذب كل الأجزاء المتناثرة في ذاته، فبموته نيابة عنا على الصليب، المسيح الذي “فيه سُرَّ أن يَحل كل الملء وأن يُصالح به الكل لنفسه” عمِل الصُلح- أي السلام- بدم صليبه -كو ١: ١٩-٢٠
عندما نختبر هذا السلام، سنختبر حالة من التناغم والاتساق الداخلي تعجز الكلمات عن وصفها! إن لم نفهم هذا السلام الذي يصعب على العقل إدراكه، لن نفهم أبدًا كيف استطاع بولس أن يكتب عن الفرح والسلام وهو مقيَّد، أو كيف استطاع بولس وسيلا أن يصليا ويترنما من داخل السجن، أو كيف استطاع بطرس أن ينام مُستغرقًا في نومه وهو مُلقى في السجن، فاضطر الملاك ان يضرب جنبه ليوقظه
يا أحبائي، كم نحتاج لهذا النوع من السلام في هذه الأيام المضطربة والتي يجتازها العالم أجمع! ونحن نقترب من عيد القيامة المجيد في هذه الأجواء الغامضة، دعونا لا ننسى حالة الغموض والقلق التي عانى منها التلاميذ، والسلام الحقيقي الدائم الذي تركه المسيح لهم ولنا. إن لم تختبر هذا النوع من السلام بعد، فإنه ليس ببعيد عنك! فرئيس السلام يدعوك للدخول في علاقة حميمة معه؛ علاقة ستغير حياتك تمامًا
ولمن اختبر هذا السلام ولكن تسببت حالة الذُعر بالتشويش على هذا السلام، فالرب يقدِّر وينتظر عودتك ليرد لك سلامك
لتمتلئ قلوبنا ب “الفرح العظيم” الذي ملأ قلوب التلاميذ عندما رأوا المسيح المقام (لو ٢٤: ٥٢) ولنقوم بدورنا كسفراء عن المسيح بكل أمانة في عالم في أشد الاحتياج في وقت مثل هذا، حاذين أرجلنا “باستعداد إنجيل السلام” – أف ٦: ١٥
حينئذ فقط سنستطيع أن نتغنى بمزامير داود المتناغمة -كمزمور ٩١- من نفسٍ متناغمة
* This blog post is also available in English.